38 يوما فقط تفصلنا عن بدء التطبيق الفعلي لنظام الرسوم على الأراضي البيضاء داخل المدن، لتكتمل محاصرة آفات وتشوهات السوق العقارية، التي تسببت بالدرجة الأولى في تضخم أسعار الأراضي والعقارات، ونتج ما نتج عنها من تفاقم خطير للأزمة الإسكانية في بلادنا، وضعها في المرتبة الأولى في سلم المخاطر التنموية التي تهدد الاستقرارين الاقتصادي والاجتماعي.
إن انخفاض الأسعار المتضخمة للأراضي والعقارات، الذي أصبح اليوم مشاهدا للجميع، بعد طول إنكار من تجار الأراضي والعقارات، ويقدر أن يستمر لفترة أطول ستمتد لعدة أعوام مقبلة، بمشيئة الله تعالى، وأن تتسع دائرته لاحقا لتشمل جميع أصقاع السوق العقارية دون استثناء، بل تتجاوزها إلى التأثير في تكلفة الإيجارات بأنواعها كافة بالانخفاض، كل هذه التطورات ستكون لها آثار محمودة جدا في الأداء الاقتصادي الكلي، وفي تحسّن الأوضاع المعيشية للمواطنين والمقيمين على حد سواء، وستسهم مجتمعة في تحسّن حركة التطوير والإصلاح والتنمية التي تشهدها بلادنا خلال الفترة الراهنة ومستقبلا.
يصعد إلى السطح في الوقت الراهن، عديد من الأسئلة؛ منها (1) هل سبق أن انخفضت أسعار الأراضي والعقارات، فما اعتدنا عليه فيما يتعلق بسوق العقار أنها سوق لا تعرف الانخفاض أو التراجع في الأسعار؟ (2) هل سيؤدي انخفاض أسعار الأراضي والعقارات إلى نشوء أزمات اقتصادية ومالية في البلاد؟ أم العكس؟ ومن سيتحمل خسارة تلك الانخفاضات في أسعار الأراضي والعقارات؟
بالنسبة لإجابة السؤال الأول، "نعم" لقد حدث ذلك سابقا، وتحديدا خلال الفترة 1982-1989 بنسبة فاقت في المتوسط 50.0 في المائة على مستوى مدن المملكة، وكان قد وصل في بعض المواقع إلى أعلى من 70.0 في المائة، دون الأخذ بالاعتبار المناطق والمواقع التي شهدت ارتفاعا كبيرا في المضاربة على الأراضي فيها. كيف حدث ذلك؟ وما الأسباب التي أوقفت ذلك الانهيار السعري الكبير؟
وفقا لبيانات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات (الكتب الإحصائية السنوية)، سبق ذلك الانهيار السعري للعقار طفرة عقارية هائلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد، تجاوزت بنموها الهائل 352.0 في المائة خلال أقل من أربعة أعوام فقط (1973-1977)، وهي الفترة التي ارتفعت خلالها أسعار النفط بنحو 360 في المائة، وتأسيس صندوق التنمية العقارية، عززت من نمو إيرادات ومصروفات الحكومة للفترة نفسها بأعلى من 213.3 في المائة للإيرادات، وأعلى من 642.4 في المائة للمصروفات، عدا زيادة الهجرة الداخلية للسكان من القرى والهجر إلى المدن الرئيسة، وزيادة تدفق السكان غير السعوديين على البلاد نتيجة الطفرة الاقتصادية الأولى، والنمو السكاني الكبير خلال تلك الفترة القصيرة بأكثر من 16.0 في المائة.
ومع بدء أسعار النفط في التراجع الحاد بنحو 60.0 في المائة خلال 1981-1986، وانكماش الإيرادات الحكومية للفترة نفسها بنحو 79.2 في المائة، والمصروفات الحكومية بنحو 51.7 في المائة، ترتب عليها تراجع أسعار العقارات بنسبة فاقت الـ 50.0 في المائة، رغم الزيادة السكانية الكبيرة بنحو 48.1 في المائة خلال الفترة 1981-1989، ومع بدء الحكومة في الاستدانة محليا في 1988 وما تلاه من أعوام، دخلت السوق العقارية في مرحلة ركود طويلة جدا، استغرقت نحو 17 عاما، أي حتى عام 2006، على الرغم من ارتفاع إجمالي عدد السكان خلال تلك الفترة من 14.5 مليون نسمة إلى أعلى من 24.1 مليون نسمة (بنمو إجمالي فاق 66.6 في المائة).
وبالنسبة لإجابة السؤال الثاني، "لا" بل على العكس تماما، خاصة إذا علمنا الأسباب التي أدت في الأصل إلى تلك الارتفاعات الهائلة وغير المبررة في الأسعار السوقية للأصول العقارية من أراض وعقارات، التي تمحورت من رأسها إلى أخمص قدميها حول التشوهات الواسعة في السوق العقارية، بدءا من الاحتكار الكبير للأراضي داخل المدن (أعلى من 55.0 في المائة من إجمالي مساحات كبرى المدن)، واكتنازها ومنعها من الانتفاع والتطوير، سعيا إلى تنامي قيمتها السوقية دون النظر إلى الأضرار والآثار السلبية له، وزاد من ضراوة الارتفاع السعري احتدام تعاملات المضاربة على الأراضي، قابل كل تلك العثرات التنموية؛ انعدام الحلول والمعالجة من قبل الأطراف الحكومية المعنية كافة، فلا وزارة الإسكان قامت بأدوارها طوال الأعوام الماضية، ولا وزارة التجارة والصناعة ومعها مجلس حماية المنافسة قاما بأي إجراءات تحد من أشكال احتكار الأراضي والتلاعب في أسعار الأصول العقارية، ولا وزارة الشؤون البلدية والقروية قامت بدورها تجاه الإسراع بتطوير وترخيص المخططات والأحياء، لتنتج حالة السوق العقارية والإسكان بوجهها وجسدها المعوق تنمويا كما نشهده في المرحلة الراهنة.
بناء عليه؛ لن تتجاوز حدود من سيتحمل خسارة انخفاض الأسعار المتضخمة لأسعار الأراضي والعقارات ملاكها فقط، الذين حصدوا سابقا وحصريا مكاسب ارتفاعها الشاهق خلال الأعوام الماضية، أو من تورط في الشراء بتلك الأسعار المتضخمة، إضافة إلى شريحة الممولين للشراء وهي الشريحة التي وضعت احتياطيات كبيرة تجاه انخفاض الأسعار، ومصدر الخطر بالنسبة لتلك الشريحة أن تتورط في تعثر من مولتهم بالأموال والقروض عن سداد المستحقات عليهم.
خلاصة القول هنا؛ أمام اليأس الذي تغلغل لدى أغلب الأفراد تجاه التضخم السعري الكبير لأسعار الأراضي والعقارات، وعدم قدرتهم لا من حيث الدخل السنوي، ولا حتى من حيث القدرة الائتمانية، وما رافقها من حملات ضخمة جدا وواسعة النطاق للأطراف ذوي العلاقة بالسوق العقارية، من تجار الأراضي والعقارات، مرورا بالسماسرة في المكاتب العقارية، وامتدادهم في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، استهدفت إقناع أفراد المجتمع بأن تلك الأسعار المتضخمة لا مجال أبدا لتراجعها، بل إنها تتوجه إلى مزيد من الارتفاع واستمراره، كان لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي، وتعزيز الوعي والمعلومات لدى أولئك الأفراد بالدرجة الأولى، كونهم المستهدفين ومن يدفع الثمن فادحا من جراء هذا التضخم السعري الهائل لأسعار الأراضي والعقارات. والأخطر من كل هذا؛ أنه يمثل المحاولة الأخيرة لتلك الأطراف العقارية للهروب من تحمل تكلفة خسارة أسعار الأراضي والعقارات، وتحميلها عيانا بيانا على كاهل من كانوا ضحايا دون غيرهم لتلك الدوامة العقارية، وهو الأمر الذي يفترض بأفراد المجتمع عموما دون استثناء الحذر منه، وأن يتحصنوا بأعلى درجات الوعي والحذر من أخطاره الكبيرة، يكفي القول عنها إن عنوان قيعانها لا يخرج عن مفردتي (الديون المصرفية الطائلة، والفقر والعجز).
يجب التأكيد على أن فوائد انخفاض الأسعار المتضخمة عقاريا، تتجاوز مجرد كبح جماح أحد أكبر مصادر التضخم محليا، وانتقال أثره إلى خفض تكلفة إيجارات المساكن وبقية العقارات التجارية والصناعية، تنتهي آثاره الإيجابية عند إعادة الأسعار إلى مستوياتها العادلة، التي تتناسب مع دخل الأفراد، وفي الوقت ذاته تخفض تكلفة الإنتاج والإيجارات على منشآت القطاع الخاص تجاريا وصناعيا وخدماتيا، ما سيؤدي في مجمله إلى تحقيق تحسن كبير على معيشة الأفراد، ويحفز نمو منشآت القطاع الخاص، ويسهم كذلك في إعادة توجيه الثروات والسيولة المحلية نحو الاستثمار المجدي، ودخولها في قنوات الإنتاج والتشغيل ورفع مستويات إنتاجية الاقتصاد الوطني، الذي سيؤدي إلى إيجاد مزيد من فرص العمل الكريمة أمام المواطنين، ويعزز بصورة أكبر من استقرار ونمو الاقتصاد الوطني، بما يعوض كثيرا انخفاض أسعار النفط. والله ولي التوفيق.