لأن الحياةَ لا تكفُ عن توجِيه الصفعة تلو الأخرى لوجوهِنا الشاحِبة .
لأن النفسَ كالقشةِ ضعيفة أمام أنواءِ الدُنيا وعواصِفها التي تقتلعُ كُل أشجارِ اليقِين مِن أرضِية قُلوبِنا .
لأنَه مِن الصعبِ أن تمضِي واقفًا على صراطِ الحياةِ دون أن تسقُط تارةً وتتدحرج تارةً أخرى .
لأن الضُعف بشرِيٌ وجُبِلنا عليهِ , وخُلقنا به , ونحيَا في ظلالِه ما شاء لنا الله .
لأن المرضَ لا يعنِي بالضرورةِ عِلةً تُصيب الجسدَ أو قُرحةً تُنهك المعدة أو سرطانًا يجنِن الخلَايا أو زُكامًا يُسِيل الأنفَ أو إعاقةً تُردِي الجِسم عاجزًا , بل قد يعنِي خللًا يُصِيب العقلَ فيصير عاجزًا عن التفرِيق بين الصواب والخطأ , بين المُمكن والمحال , بين الممنوع والمسمُوح , بين الخيرِ والشرِ , وقد يعنِي سقمًا تشكُوه النفسُ فتتقلبُ بين ظُهراني الشكِ وتُصبح لعبةً تتقاذفها الأحاسِيس المُتناقضة والنوباتُ المُفاجِئة .
لأن كُل هذا يحصُل بل وأسوأ , دون أن ندري أو نشعر , حتى نُصبح أشخاصًا آخرين لا نعرِفهم ولا نُريد أن نعرِفهم .
كانا لزامًا أن نتوقفَ قليلًا و نعترِف لأنفسنا بأننا لسنا على ما يُرام , وبأننا لم نعد الأشخاص الذِين كنا نعرِفهم , وبأن أمورنا ليست بخيرٍ , وبأن قُلوبنا منهكةٌ وعُقولنا لا تعملُ كما يجِب . مِنا مَن يفعل ذلكَ ويعترف لنفسِه أولًا ثُم يبوح للمجتمعِ برغبتِه في الانعتاقِ من مرضِه ,مِنا من يُقررُ أن يُحررِ نفسهُ بالموتِ أو بشيءٍ آخر شابهه كالمُخدرات , ومنا من يرفضُ تمامًا أن يعترِف بأنه مريضٌ يحتاجُ المُساعدةَ .
شخصِيًا أظن أن الفئة الأولى مِن الناسِ , يسهُل جدًا التعامُل معها , لأن الرغبة فِي الحلِ , نصفُ الحلِ أو كُله ولأنه -ولله الحمدُ بعدَ وقبل كُل شيءٍ - هناكَ شخصٌ في هذا العالمِ الفسِيح نعرِي جراحَنا أمامه دُون أن نشعر بالخوفِ و نمارس حقنا في المرضِ النفسِي أمامه دون أن يتهمنا بالجُنون أو فُقدان العقل.
أما الفئتان الثانية والثالِثة فأجدُني أشعر بالخوفِ/العطفِ عليهما , لأنهما بلغتَا مِن المرضِ عُتيًا , ولأنهما اختارتا حُلولًا غيرَ معقولةٍ , وهربتا مِن المُواجهة التِي لن تكونَ سهلةً بالتأكِيد لكِنها ستكون رابحةً بإذن الله.
مِن جهةٍ أخرى أشعر بالشفقةِ على مُجتمعِنا البئيس الذي يعِيب على الناسِ أن يعترِفوا بأنهم يحتاجون المُساعدة في اجتيازِ أزمةٍ نفسِيةٍ , ويهرِف بما لا يعرف فتارةً ينصحُونكَ بقراءة القُرآن والعودةِ إلى الدِين فأنتَ بنظرهم ظالٌ كبِيرٌ مسّكَ الجِن وإلا ما كنتَ لتُصاب بما أصبتَ به , وتارةً يفسرون مرضكَ بأنه مجردُ عين حاسدٍ , وتارةً أخرى يقولون لكَ بأنكَ فقط "مُدللٌ" أو ضعيفٌ وأن الدُنيا لم تركَ شيئًا مِن شرِها بعدُ و أن القادِم أجمل .