الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد؛
الحمدُ لله ربِّ العالَمين، نحمده ونستعين به ونستهديه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسِنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وبعد:
واشوقاه إلى الجنة
هذا هو العُنوانُ الذي أحببتُ أن أتوِّج به كَلِماتي.
ولكن لماذا الشَّوق إلى الجَنَّة؟ ألسْنا نعيش في الدنيا ونتمتَّع بكلِّ ملذَّاتها ومُتعها، وبكلِّ ما فيها؟
فلماذا يا مشتاقُ تتلهَّف بكلِّ هذا الشوق إلى الجنة؟! فكلُّ شيء مسخَّر لك في الدنيا، فلماذا تُريد أن ترْحَل عنها؟
عباد الله:
إنَّ هذا النداءَ ليس هروبًا مِن واقع الحياة؛ لنعيشَ به خيالاً، وإنَّما هو تشويقٌ لتلك الدار، التي طُردْنا منها، فأُخْرِج أبونا آدم - عليه السلام - وأمُّنا حواء منها إلى هذه الدنيا، وحالنا كحال الغريب، بل كحال عابرِ السبيل؛ لأنَّ عابرَ السبيل ليس له مسكنٌ يأويه ولا مسكن ينامُ فيه، فهو في سفَر باستمرار، حالُه كحالِ صاحب المهمَّة يبقَى في عناء حتى يُنهيَها، بخلافِ حال الغريب، فقد يسكُن في بلدِ الغُرْبة.
عباد الله:
إنَّ الجَنَّة هي موطنُنا الأوَّل، ونحن في هذه الدنيا عابرو سبيل، ولا بدَّ لنا من الرحيل، وعابر السبيل يبقَى على شوْقٍ للعودة لوطنِه الأوَّل.
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيل))؛ البخاري (6416).
فهذه هي طبيعةُ الحياة التي يجب أن يحياها المسلِم، وعليه أن يَسْعَى جاهدًا للرجوعِ ملبِّيًا النداء، كما قال ابنُ القيِّم حين نادَى شِعرًا:
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا *** مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى *** نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ؟!
روى البخاريُّ في صحيحه عن سهلٍ قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَوضِع سوطٍ في الجنة خيرٌ مِن الدنيا وما فيها...الحديث))؛ البخاري (6415).
أتَسمع يا عبدَ الله؟! إنَّ موضع السوط في الجنة هو خيرٌ مِن الدنيا وما فيها، فموضع السوط في الجَنَّة هو خيرٌ منها وما فيها، فإنَّ ما يساوي الدنيا في الجنة هو أقلُّ مِن قدْر السوط.
يا ألله! الدنيا بكلِّ ما فيها مِن مُتَع ولذائذ، بالنِّسبة للجنة أقلُّ مِن موضع السوط! فلماذا التعلُّقُ بهذه الدنيا التي لا تُساوي موضعَ السَّوْط؟!
واشوقاه إلى الجَنَّة!
واشوقاه إلى ذلك الوطنِ الجميل!
فإذا عرَفْنا أنَّ موضع السوط خيرٌ من الدنيا وما فيها، فكيف إذا سمعْنا عن أنهارِها وأشجارِها، وقصورها وحُورِها، كيف بكلِّ هذا؟!
ذُكِر عن إبراهيمَ بن أدهم أنَّه قال: نحن نسْلٌ مِن نسْل الجنَّة، سبَانا إبليس فيها بالمعصية، وحقيقٌ على المسبي ألا يهنأَ بعيشه حتى يرجعَ إلى وطنه.
وفي هذه الدنيا كذلك الشيطانُ يحاول أن يَصُدَّنا عن العودة، ولكن أقول كما قال الله - تعالى -: ( إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76].
فيا عبدَ الله، كُنْ شجاعًا ولا تخفْ، وامضِ على يقين وتعلق بالآخرة، فأنت ابن الآخِرة ولستَ ابنَ الدنيا، فلا تُعلِّق قلبَك بالدنيا، واجعلْها بين يديك، فلا تعرف ماذا يكون اسمُك غدًا.
وختامًا أقول:
( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 17].
واشوقاه إلى الجَنَّة.
اللهمَّ اجعلْنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحْسَنه، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا محمَّد، والحمد لله ربِّ العالَمين.